فصل: سلمان يهرب إلى الشام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: سيرة ابن هشام المسمى بـ «السيرة النبوية» **


 إنذار يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم

 اليهود لعنهم الله يعرفونه ويكفرون به

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن رجال من قومه ، قالوا ‏‏:‏‏ إن مما دعانا إلى الإسلام ، مع رحمة الله تعالى وهداه لنا ، لما كنا نسمع من رجال يهود ، وكنا أهل شرك أصحاب أوثان ، وكانوا أهل كتاب ، عندهم علم ليس لنا ، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور ، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون ، قالوا لنا ‏‏:‏‏ إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم ‏‏.‏‏

فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم أجبناه ، حين دعانا إلى الله تعالى ، وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به ، فبادرناهم إليه ، فآمنا به ، وكفروا به ، ففينا وفيهم نزل هؤلاء الآيات من البقرة ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم ، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ، فلعنة الله على الكافرين ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ يستفتحون ‏‏:‏‏ يستنصرون ، ويستفتحون أيضا ‏‏:‏‏ يتحاكمون ، وفي كتاب الله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

 سلمة يذكر حديث اليهودي الذي أنذر بالرسول صلى الله عليه وسلم

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني صالح بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد أخي بني عبدالأشهل عن سلمة بن سلامة بن وقش ، وكان سلمة من أصحاب بدر ، قال ‏‏:‏‏ كان لنا جار من يهود في بني عبدالأشهل ، قال ‏‏:‏‏ فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بني عبدالأشهل - قال سلمة ‏‏:‏‏ وأنا يومئذ من أحدث من فيه سنا ، علي بردة لي ، مضطجع فيها بفناء أهلي - فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار ؛ قال ‏‏:‏‏ فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان ، لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت ؛ فقالوا له ‏‏:‏‏ ويحك يا فلان أوترى هذا كائنا ، أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ نعم ، والذي يحلف به ، ولودّ أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدار ، يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطينونه عليه ، بأن ينجو من تلك النار غدا ؛ فقالوا له ‏‏:‏‏ ويحك يا فلان ‏‏!‏‏ فما آية ذلك ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ نبى مبعوث من نحو هذه البلاد ، وأشار بيده إلى مكة واليمن ؛ فقالوا ‏‏:‏‏ ومتى تراه ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ فنظر إلي وأنا من أحدثهم سنا ، فقال ‏‏:‏‏ إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه ‏‏.‏‏

قال سلمة ‏‏:‏‏ فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله محمدا رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو حي بين أظهرنا ، فآمنا به ، وكفر به بغيا وحسدا ، قال ‏‏:‏‏ فقلنا له ‏‏:‏‏ ويحك يا فلان ألست الذي قلت لنا فيه ما قلت ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ بلى ، ولكن ليس به ‏‏.‏‏

 ابن الهيبان اليهودي يتسبب في إسلام ثعلبة وأسيد ابني سعية ، وأسد بن عبيد

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة قال ‏‏:‏‏ قال لي ‏‏:‏‏ هل تدري عم كان إسلام ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسد بن عبيد ، نفر من بني هدل ، إخوة من بني قريظة ، كانوا معهم في جاهليتهم ثم كانوا سادتهم في الإسلام ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ قلت ‏‏:‏‏ لا و الله ، قال ‏‏:‏‏ فإن رجلا من يهود من أهل الشام ، يقال له ‏‏:‏‏ ابن الهيبان ، قدم علينا قبيل الإسلام بسنين ، فحل بين أظهرنا ، لا والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس أفضل منه ، فأقام عندنا فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا له ‏‏:‏‏ اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا ؛ فيقول ‏‏:‏‏ لا والله حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة ؛ فنقول له ‏‏:‏‏ كم ‏‏؟‏‏ فيقول ‏‏:‏‏ صاعا من تمر ، أو مدين من شعير ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فنخرجها ‏ ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرتنا فيستسقي الله لنا ‏‏.‏‏ فوالله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ونسقى ، قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ‏‏.‏‏

قال ‏‏:‏‏ ثم حضرته الوفاة عندنا ‏‏.‏‏ فلما عرف أنه ميت ، قال ‏‏:‏‏ يا معشر يهود ، ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ قلنا ‏‏:‏‏ إنك أعلم ؛ قال ‏‏:‏‏ فإني إنما قدمت هذه البلدة أتوكف خروج نبى قد أظل زمانه ؛ وهذه البلدة مهاجره ، فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه ، وقد أظلكم زمانه ، فلا تسبقن إليه يا معشر يهود ، فإنه يبعث بسفك الدماء ، وسبي الذراري والنساء ممن خالفه ، فلا يمنعكم ذلك منه ‏‏.‏‏

فلما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصر بني قريظة ، قال هؤلاء الفتية ، وكانوا شبابا أحداثا ‏‏:‏‏ يا بني قريظة ، والله إنه للنبي الذي كان عهد إليكم فيه ابن الهيبان ؛ قالوا ‏‏:‏‏ ليس به ؛ قالوا ‏‏:‏‏ بلى والله ، إنه لهو بصفته ، فنزلوا وأسلموا ، وأحرزوا دماءهم و أموالهم وأهليهم ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فهذا ما بلغنا عن أخبار يهود ‏‏.‏‏

 حديث إسلام سلمان رضي الله عنه

 سلمان رضي الله عنه يتشوف إلى النصرانية بعد المجوسية

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ، عن محمود بن لبيد ، عن عبدالله بن عباس ، قال ‏‏:‏‏ حدثني سلمان الفارسي ، و أنا أسمع من فيه ، قال ‏‏:‏‏ كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من قرية يقال لها جَيّ ، وكان أبي دهقان قريته ، وكنت أحب خلق الله إليه ، لم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية ، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار الذي يوقودها ، لا يتركها تخبو ساعة ‏‏.‏‏

قال ‏‏:‏‏ وكانت لأبي ضيعة عظيمة ، قال ‏‏:‏‏ فشغل في بنيان له يوما ، فقال لي ‏‏:‏‏ يا بني ، إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي ، فاذهب إليها فاطلعها ‏‏.‏‏ وأمرني فيها ببعض ما يريد ، ثم قال لي ‏‏:‏‏ ولا تحتبس عني فإنك إن احتبست عني كنت أهم إلي من ضيعتي ، وشغلتني عن كل شيء من أمرى ‏‏.‏‏

قال ‏‏:‏‏ فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها ، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى ، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون ، وكنت لا أدري ما أمر الناس ، لحبس أبي إياي في بيته ، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون ، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم وقلت ‏‏:‏‏ هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه ، فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس ، وتركت ضيعة أبي فلم آتها ؛ ثم قلت لهم ‏‏:‏‏ أين أصل هذا الدين ‏‏؟‏‏ قالوا ‏‏:‏‏ بالشام ‏‏.‏‏

فرجعت إلى أبي ، وقد بعث في طلبي ، وشغلته عن عمله كله ، فلما جئته قال ‏‏:‏‏ أي بني أين كنت ‏‏؟‏‏ أولم أكن عهدت إليك ما عهدت ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ قلت له ‏‏:‏‏ يا أبت ، مررت بأناس يصلون في كنسية لهم ، فأعجبني ما رأيت من دينهم ، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس ؛ قال ‏‏:‏‏ أي بني ، ليس في ذلك الدين خير ، دينك ودين آبائك خير منه ؛ قال ‏‏:‏‏ قلت له ‏‏:‏‏ كلا والله ، إنه لخير من ديننا ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فخافني ، فجعل في رجلي قيدا ، ثم حبسني في بيته ‏‏.‏‏

 سلمان يهرب إلى الشام

قال ‏‏:‏‏ وبعثت إلى النصارى فقلت لهم ‏‏:‏‏ إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى ، فأخبروني بهم ‏‏.‏‏ فقلت لهم ‏‏:‏‏ إذا قضوا حوائجهم ، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم ، فآذنوني بهم ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم ، فألقيت الحديد من رجلي ، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام ‏‏.‏‏ فلما قدمتها ، قلت ‏‏:‏‏ من أفضل أهل هذا الدين علما ‏‏؟‏‏ قالوا ‏‏:‏‏ الأسقفّ في الكنيسة ‏‏.‏‏

 سلمان مع أسقف النصارى السيىء

قال ‏‏:‏‏ فجئته فقلت له ‏‏:‏‏ إني قد رغبت في هذا الدين ، فأحببت أن أكون معك ، وأخدمك في كنيستك ، فأتعلم منك ، وأصلي معك ؛ قال ‏‏:‏‏ ادخل ، فدخلت معه ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ وكان رجل سوء ، يأمرهم بالصدقة ، ويرغبهم فيها ، فإذا جمعوا إليه شيئا منها اكتنـزه لنفسه ، ولم يعطه المساكين ، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق ‏‏.‏‏

قال ‏‏:‏‏ فأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع ؛ ثم مات ، فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه ، فقلت لهم ‏‏:‏‏ إن هذا كان رجل سوء ، يأمركم بالصدقة ، ويرغبكم فيها ، فإذا جئتموه بها ، اكتنـزها لنفسه ، ولم يعط المساكين منها شيئا ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فقالوا لى ‏‏:‏‏ وما علمك بذلك ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ فقلت لهم ‏‏:‏‏ أنا أدلكم على كنزه ؛ قالوا ‏‏:‏‏ فدلنا عليه ؛ قال ‏‏:‏‏ فأريتهم موضعه ، فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا ‏‏.‏‏

قال ‏‏:‏‏ فلما رأوها قالوا ‏‏:‏‏ والله لا ندفنه أبدا ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فصلبوه ، ورجموه بالحجارة ، وجاءوا برجل آخر ، فجعلوه مكانه ‏‏.‏‏

 سلمان مع أسقف النصارى الصالح

قال ‏‏:‏‏ يقول سلمان ‏‏:‏‏ فما رأيت رجلا لا يصلى الخمس ، أرى أنه كان أفضل منه وأزهد في الدنيا ، ولا أرغب في الآخرة ، ولا أدأب ليلا ولا نهارا منه ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فأحببته حبا لم أحبه شيئا قبله مثله ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فأقمت معه زمانا طويلا ، ثم حضرته الوفاة ، فقلت له ‏‏:‏‏ يا فلان ، إني قد كنت معك وأحببتك حبا لم أحبه شيئا قبلك ، وقد حضرك ما ترى من أمر الله تعالى ، فإلى من توصي بي ‏‏؟‏‏ وبم تأمرني ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ أي بني ، والله ما أعلم اليوم أحدا على ما كنت عليه ، فقد هلك الناس ، وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه ، إلا رجلا بالموصل ، وهو فلان ، و هو على ما كنت عليه فالحق به ‏‏.‏‏

 سلمان يلحق بأسقف الموصل

قال ‏‏:‏‏ فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل ، فقلت له ‏‏:‏‏ يافلان ، إن فلانا أوصاني عند موته أن ألحق بك ، وأخبرني أنك على أمره ؛ قال ‏‏:‏‏ فقال لي ‏‏:‏‏ أقم عندي ، فأقمت عنده ، فوجوته خير رجل على أمر صاحبه ، فلم يلبث أن مات ‏‏.‏‏

فلما حضرته الوفاة ، قلت له ‏‏:‏‏ يا فلان ، إن فلانا أوصي بي إليك ، وأمرني باللحوق بك ، وقد حضرك من أمر الله ما ترى ، فإلى من توصي بي ‏‏؟‏‏ وبم تأمرني ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ يا بني ، والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه ، إلا رجلا بنصيبين ، وهو فلان ، فالحق به ‏‏.‏‏

 سلمان يلحق بأسقف نصيبين

فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين ، فأخبرته خبرى ، وما أمرني به صاحبه ، فقال ‏‏:‏‏ أقم عندي ، فأقمت عنده ، فوجدته على أمر صاحبيه ‏‏.‏‏ فأقمت مع خير رجل ، فوالله ما لبث أن نزل به الموت ، فلما حُضر قلت له ‏‏:‏‏ يا فلان ، إن فلانا كان أوصى بي إلى فلان ، ثم أوصى بي فلان إليك ؛ فإلى من توصي بي ‏‏؟‏‏ وبم تأمرني ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ يا بني ، والله ما أعلمه بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلا بعمورية من أرض الروم ، فإنه على مثل ما نحن عليه ، فإن أحببت فأته ، فإنه على أمرنا ‏‏.‏‏

 سلمان يلحق بصاحب عمورية

فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية ، فأخبرته خبري ؛ فقال ‏‏:‏‏ أقم عندي ، فأقمت عند خير رجل ، علي هدي أصحابه وأمرهم ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ واكتسبت حتى كان لي بقرات وغنيمة ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ ثم نزل به أمر الله تعالى ، فلما حُضر قلت له ‏‏:‏‏ يا فلان ، إني كنت مع فلان ، فأوصى بي إلى فلان ، ثم أوصى بي فلان إلى فلان ، ثم أوصى بي فلان إليك ، فإلى من توصي بي ‏‏؟‏‏ وبم تأمرني ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ أي بني ، والله ما أعلمه أصبح اليوم أحد على مثل ما كنا عليه من الناس آمرك به أن تأتيه ، ولكنه قد أظل زمان نبي ، وهو مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام ، يخرج بأرض العرب ، مُهاجَره إلى أرض بين حرتين ، بينهما نخل به علامات لا تخفى ، يأكل الهدية ، ولا يأكل الصدقة ، وبين كتفيه خاتم النبوة ، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل ‏‏.‏‏

 سلمان يذهب إلى وادي القرى

قال ‏‏:‏‏ ثم مات وغيب ، ومكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث ، ثم مر بي نفر من كلب تجار ، فقلت لهم ‏‏:‏‏ احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه ؛ قالوا ‏‏:‏‏ نعم ‏‏.‏‏ فأعطيتهموها وحملوني معهم ، حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني ، فباعوني من رجل يهودي عبدا ، فكنت عنده ، ورأيت النخل ، فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي ، ولم يحقّ في نفسي ‏‏.‏‏

 سلمان يذهب إلى المدينة

فبينا أنا عنده ، إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة ، فابتاعني منه ، فاحتملني إلى المدينة ، ‏فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي ، فأقمت بها ، وبُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقام بمكة ما أقام ، لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق ، ثم هاجر إلى المدينة ‏‏.‏‏

 سلمان يسمع بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة

فوالله إني لفى رأس عذق لسيدي أعمل له فيه بعض العمل ، وسيدي جالس تحتي ، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه ، فقال ‏‏:‏‏ يا فلان ، قاتل الله بني قيلة ، والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم ، يزعمون أنه نبي ‏‏.‏‏

نسب قيلة

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ قيلة ‏‏:‏‏ بنت كاهل بن عذرة بن سعد بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة ، أم الأوس والخزرج ‏‏.‏‏

قال النعمان بن بشير الأنصاري يمدح الأوس والخزرج ‏‏:‏‏

بهاليل من أولاد قيلة لم يجد * عليهم خليط في مخالطة عتبا

مساميح أبطال يراحون للندى * يرون عليهم فعل آبائهم نحبا

وهذان البيتان في قصيدة له ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ، عن محمود بن لبيد ، عن عبدالله بن عباس ، قال ‏‏:‏‏ قال سلمان ‏‏:‏‏ فلما سمعتها أخذتني العُرَوْراء ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ و العروراء ‏‏:‏‏ الرعدة من البرد والانتفاض ، فإن كان مع ذلك عرق فهي الرُّحَضاء ، وكلاهما ممدود - حتى ظننت أني سأسقط على سيدي ، فنزلت عن النخلة ، فجعلت أقول لابن عمه ذلك ‏‏:‏‏ ماذا تقول ‏‏؟‏‏ ماذا تقول ‏‏؟‏‏ فغضب سيدي ، فلكمني لكمة شديدة ، ثم قال ‏‏:‏‏ ما لك ولهذا ‏‏؟‏‏ أقبل على عملك ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ قلت ‏‏:‏‏ لا شيء ، إنما أردت أن أستثبته عما قال ‏‏.‏‏‏

 سلمان يستوثق من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم

قال ‏‏:‏‏ وقد كان عندي شيء قد جمعته فلما أمسيت أخذته ، ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء ، فدخلت عليه ، فقلت له ‏‏:‏‏ إنه قد بلغني أنك رجل صالح ، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة ، وهذا شيء قد كان عندي للصدقة ، فرأيتكم أحق به من غيركم ، قال ‏‏:‏‏ فقربته إليه ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه ‏‏:‏‏ كلوا ، وأمسك يده فلم يأكل ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فقلت في نفسي ‏‏:‏‏ هذه واحدة ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ ثم انصرفت عنه ، فجمعت شيئا ، وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ثم جئته به فقلت له ‏‏:‏‏ إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة ، فهذه هدية أكرمتك بها ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ، وأمر أصحابه فأكلوا معه ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فقلت في نفسي ‏‏:‏‏ هاتان ثنتان ؛ قال ‏‏:‏‏ ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد ، قد تبع جنازة رجل من أصحابه ، و علي شملتان لي ، وهو جالس في أصحابه ، فسلمت عليه ، ثم استدرت أنظر إلى ظهره ، هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي ؛ فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم استدبرته عرف أني أستثبت في شيء وصف لي ، فألقى رداءه عن ظهره ، فنظرت إلى الخاتم فعرفته ، فأكببت عليه أقبله وأبكي ؛ فقال لي رسول الله‏ صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ تحول ، فتحولت فجلست بين يديه ، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس ، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وعلى وآله وسلم أن يسمع ذلك أصحابه ‏‏.‏‏ ثم شغل سلمان الرقُّ حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد ‏‏.‏‏

 سلمان يفتك نفسه من الرق بأمر رسول الله ومساعدته صلى الله عليه وسلم

قال سلمان ‏‏:‏‏ ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ كاتب يا سلمان ؛ فكاتبت صاحبي على ثلثمائة نخلة أحييها له بالفقير ، وأربعين أوقية ‏‏.‏‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه ‏‏:‏‏ أعينوا أخاكم ، فأعانوني بالنخل ، الرجل بثلاثين وَدِيَّة ، والرجل بعشرين ودية ، والرجل بخمس عشرة ودية ، والرجل بعشر ، يعين الرجل بقدر ما عنده ، حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية ؛ فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ اذهب يا سلمان ففقِّر لها ، فإذا فرغت فأتني أكنْ أنا أضعها بيدي ‏‏.‏‏

قال ‏‏:‏‏ ففقَّرت وأعانني أصحابي ، حتى إذا فرغت جئته فأخبرته ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معي إليها ، فجعلنا نقرب إليه الودي ، ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ، حتى فرغنا ‏‏.‏‏ فوالذي ‏نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة ‏‏.‏‏

قال ‏‏:‏‏ فأديت النخل وبقي عليّ المال ‏‏.‏‏ فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب ، من بعض المعادن ، فقال ‏‏:‏‏ ما فعل الفارسي المكاتب ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ فدعيت له ، فقال ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ خذ هذه ، فأدها مما عليك يا سلمان ‏‏)‏‏ قال ‏‏:‏‏ قلت ‏‏:‏‏ وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي ‏‏؟‏‏ فقال ‏‏:‏‏ خذها فإن الله سيؤدي بها عنك ‏‏.‏‏

قال ‏‏:‏‏ فأخذتها فوزنت لهم منها ، والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية ، فأوفيتهم حقهم منها ، وعتق سلمان ‏‏.‏‏ فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخندق حرا ، ثم لم يفتني معه مشهد ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن رجل من عبدالقيس عن سلمان ‏‏:‏‏ أنه قال ‏‏:‏‏ لما قلت ‏‏:‏‏ وأين تقع هذه من الذي علي يا رسول الله ‏‏؟‏‏ أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلبها على لسانه ، ثم قال ‏‏:‏‏ خذها فأوفهم منها ، فأخذتها ، فأوفيتهم منها حقهم كله ، أربعين أوقية ‏‏.‏‏

 حديث سلمان مع الرجل الذي بعمورية

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني عاصم بن عمرو بن قتادة ، قال ‏‏:‏‏ حدثني من لا أتهم عن عمر بن عبدالعزيز بن مروان ، قال ‏‏:‏‏ حُدثت عن سلمان الفارسي ‏‏:‏‏ أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين أخبره خبره ‏‏:‏‏ إن صاحب عمورية قال له ‏‏:‏‏ ائت كذا وكذا من أرض الشام ، فإن بها رجلا بين غيضتين ، يخرج في كل سنة من هذه الغيضة إلى هذه الغيضة مستجيزا ، يعترضه ذوو الأسقام ، فلا يدعو لأحد منهم إلا شفي ، فاسأله عن هذا الدين الذي تبتغي ، فهو يخبرك عنه ‏‏.‏‏ قال سلمان ‏‏:‏‏ فخرجت حتى أتيت حيث وصف لي ، فوجدت الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هنالك ، حتى خرج لهم تلك الليلة ، مستجيزا من إحدى الغيضتين إلى الأخرى ، فغشيه الناس بمرضاهم ، لا يدعو لمريض إلا شفي ، وغلبوني عليه ، فلم أخلص إليه حتى دخل الغيضة التي يريد أن يدخل ، إلا منكبه ‏‏.‏‏

قال ‏‏:‏‏ فتناولته ، فقال ‏‏:‏‏ من هذا ‏‏؟‏‏ والتفت إلي ، فقلت ‏‏:‏‏ يرحمك الله ، أخبرني عن الحنيفية دين إبراهيم ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ إنك لتسألني عن شيء ما يسأل عنه الناس اليوم ، قد أظلك زمان نبي يبعث بهذا الدين من أهل الحرم ، فأته فهو يحملك عليه ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ ثم دخل ‏‏.‏‏

قال ‏‏:‏‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمان ‏‏:‏‏ لئن كنت صدقتني يا سلمان ، لقد لقيت عيسى بن مريم ، على نبينا وعليه السلام ‏‏.‏‏

 ذكر ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزى وعبيد الله بن جحش وعثمان بن الحويرث وزيد بن عمرو بن نفيل

 تشككهم في الوثنية

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ واجتمعت قريش يوما في عيد لهم عند صنم من أصنامهم ، كانوا يعظمونه وينحرون له ، ويعكفون عنده ، ويديرون به ، وكان ذلك عيدا لهم في كل سنة يوما ، فخلص منهم أربعة نفر نجيا ، ثم قال بعضهم لبعض ‏‏:‏‏ تصادقوا وَلْيَكْتُم بعضكم على بعض ؛ قالوا ‏‏:‏‏ أجل ‏‏.‏‏ وهم ‏‏:‏‏ ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزى بن قصي بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤي ؛ وعبيد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة ، وكانت أمه أميمة بنت عبدالمطلب ، وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبدالعزى بن قصي ؛ وزيد بن عمرو بن نفيل بن عبدالعزى بن عبدالله بن قرط بن رياح بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي ؛ فقال بعضهم لبعض ‏‏:‏‏ تعلموا والله ما قومكم على شيء ‏‏!‏‏ لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم ‏‏!‏‏ ما حجر نُطيف به ، لا يسمع ولا يبصر ، ولا يضر ولا ينفع ، يا قوم التمسوا لأنفسكم دينا ، فإنكم والله ما أنتم على شيء ‏‏.‏‏ فتفرقوا في البلدان يلتسمون الحنيفية ، دين إبراهيم ‏‏.‏‏

 تنصر ورقة وابن جحش

فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية ، واتبع الكتب من أهلها ، حتى علم علما من أهل الكتاب ‏‏.‏‏

وأما عبيد الله بن جحش ، فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم ، ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة ، ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان مسلمة ؛ فلما قدمها تنصر ، وفارق الإسلام ، حتى هلك هنالك نصرانيا ‏‏.‏‏

 ابن جحش يغري مهاجري الحبشة على التنصر

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، قال ‏‏:‏‏ كان عبيد الله‏ بن جحش حين تنصر يمر بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم هنالك من أرض الحبشة ، فيقول ‏‏:‏‏ فقَّحْنا وصأصأتم ، أي أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر ، ولم تبصروا بعد ‏‏.‏‏ وذلك أن ولد الكلب إذا أراد أن يفتح عينيه لينظر ، صأصأ لينظر ‏‏.‏‏ وقوله ‏‏:‏‏ فقح ‏‏:‏‏ فتح عينيه ‏‏.‏‏

 رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلف على زوجة ابن جحش بعد وفاته

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني محمد بن علي بن حسين ‏‏:‏‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث فيها إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري ، فخطبها عليه النجاشي ، فزوجه إياها ، وأصدقها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار ‏‏.‏‏

فقال محمد بن علي ‏‏:‏‏ ما نرى عبدالملك بن مروان وقف صداق النساء على أربعمائة دينار إلا عن ذلك ‏‏.‏‏ وكان الذي أملكها النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن سعيد بن العاص ‏‏.‏‏

تنصر ابن الحويرث ، وقدومه على قيصر

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم ، فتنصَّر وحسنت منزلته عنده ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ ولعثمان بن الحويرث عند قيصر حديث ، منعني من ذكره ما ذكرت في حديث حرب الفجار ‏‏.‏‏

 زيد بن عمرو يتوقف عن جميع الأديان

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وأما زيد بن عمرو بن نفيل فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية ، وفارق دين قومه ، فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان ‏ونهى عن قتل الموءودة ، وقال ‏‏:‏‏ أعبد رب إبراهيم ؛ وبادى قومه بعيب ما هم عليه ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني هشام بن عروة عن أبيه ، عن أمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما ، قالت ‏‏:‏‏ لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل شيخا كبيرا مسندا ظهره إلى الكعبة ، وهو يقول ‏‏:‏‏ يا معشر قريش ، والذي نفس زيد بن عمرو بيده ، ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري ، ثم يقول ‏‏:‏‏ اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به ، ولكني لا أعلمه ، ثم يسجد على راحلته ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثت أن ابنه ، سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وعمر بن الخطاب ، وهو ابن عمه ، قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ أتستغفر لزيد بن عمرو ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ نعم ، فإنه يُبعث أمة وحده ‏‏.‏‏

 شعر زيد في فراق الوثنية

وقال زيد بن عمرو بن نفيل في فراق دين قومه ، وما كان لقي منهم في ذلك ‏‏:‏‏

أربا واحدا أم ألف رب * أدين إذا تُقسمت الأمورُ

عزلت اللات والعزى جميعا * كذلك يفعل الجلد الصبور

فلا العزى أدين ولا ابنتيها * ولا صنمَيْ بن عمرو أزور

ولا هبلا أدين وكان ربا * لنا في الدهر إذ حلمي يسير

عجبت وفي الليالي مُعجبات * وفي الأيام يعرفها البصير

بأن الله قد أفنى رجالا * كثيرا كان شأنهم الفجور

وأبقى آخرين ببر قوم * فيربِل منهم الطفل الصغير

وبينا المرء يفتر ثاب يوما * كما يتروّح الغصن المطير

ولكن أعبدالرحمن ربي * ليغفر ذنبي الرب الغفور

فتقوى الله ربكم احفظوها * متى ما تحفظوها لا تبوروا

ترى الأبرار دارهمُ جنان * وللكفار حامية سعير

وخزي في الحياة وإن يموتوا * يلاقوا ما تضيق به الصدور

وقال زيد بن عمرو بن نفيل أيضا - قال ابن هشام ‏‏:‏‏ هي لأمية بن أبي الصلت في قصيدة له ، إلا البيتين الأولين والبيت الخامس وآخرها بيتا ‏‏.‏‏ وعجز البيت الأول عن غير ابن إسحاق - ‏‏:‏‏

إلى الله أهدي مدحتي وثنائيا * وقولا رصينا لا يـَني الدهر باقيا

إلى الملك الأعلى الذي ليس فوقه * إله ولا رب يكون مدانيا

ألا أيها الإنسان إياك والردى * فإنك لا تخفي من الله خافيا

وإياك لا تجعل مع الله غيره * فإن سبيل الرشد أصبح باديا

حنانيك إن الحن كانت رجاءهم * وأنت إلهي ربنا ورجائيا

رضيت بك اللهم ربَّا فلن أرى * أدين إلها غيرك الله ثانيا

أدين لرب يُستجاب و لا أرى* أدين لمن لم يسمع الدهر داعيا

وأنت الذي من فضل منّ ورحمة * بعثت إلى موسى رسولا مناديا

فقلت له يا اذهب وهارون فادعوا * إلى الله فرعون الذي كان طاغيا

وقولا له ‏‏:‏‏ أأنت سويت هذه * بلا وتد حتى اطمأنت كما هيا

وقولا له ‏‏:‏‏ أأنت رفعت هذه * بلا عمد أرفقْ إذا بك بانيا

وقولا له ‏‏:‏‏ أأنت سويت وسطها * منيرا إذا ما جنه الليل هاديا

وقولا له ‏‏:‏‏ من يرسل الشمس غدوة * فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا

وقولا له ‏‏:‏‏ من ينبت الحب في الثرى * فيصبح منه البقل يهتز رابيا

ويخرج منه حبه في رءوسه * وفي ذاك آيات لمن كان واعيا

وأنت بفضل منك نجيت يونسا * وقد بات في أضعاف حوت لياليا

وإني ولو سبحت باسمك ربنا * لأكثر ، إلا ما غفرت ، خطائيا

فرب العباد ألقِ سيبا ورحمة * علي وبارك في بَنيَّ وماليا

وقال زيد بن عمرو يعاتب امرأته صفية بنت الحضرمي -

نسب الحضرمي

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ واسم الحضرمي ‏‏:‏‏ عبدالله بن عماد بن أكبر أحد الصدف ، واسم الصدف ‏‏:‏‏ عمرو بن مالك أحد السكون بن أشرس بن كندي ؛ ويقال ‏‏:‏‏ كندة بن ثور بن مرتع بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن مهسع بن عمرو بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ ؛ ويقال ‏‏:‏‏ مرتع بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ ‏‏.‏‏

 زيد يعاتب زوجته لمنعها له عن البحث في الحنيفية

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وكان زيد بن عمرو قد أجمع الخروج من مكة ليضرب في الأرض يطلب الحنيفية دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، فكانت صفية بنت الحضرمي كلما رأته قد تهيأ للخروج وأراده آذنت به الخطاب بن نفيل ، وكان ‏الخطاب بن نفيل عمه وأخاه لأمه ، وكان يعاتبه على فراق دين قومه ، وكان الخطاب قد وكَّل صفية به ، وقال ‏‏:‏‏ إذا رأيتيه قد هم بأمر فآذنيني به - فقال زيد ‏‏:‏‏

لا تحبسيني في الهوا ن * صفيَّ ما دأبي ودابُهْ

إني إذا خفت الهوا ن * مشيع ذُلُل ركابه

دعموص أبواب الملو ك * وجائب للخرق نابه

قطاع أسباب تذ لّ * بغير أقران صعابه

وإنما أخذ الهوا ن * العير إذ يوهي إهابه

ويقول إني لا أذ لّ بصك * جنبيه صلابه

وأخي ابن أمي ثم * عمّي لا يُواتيني خطابه

وإذا يعاتبني بسو ء * قلت أعياني جوابه

ولو أشاء لقلت ما * عندي مفاتحه وبابه

 قول زيد حين يستقبل الكعبة

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثت عن بعض أهل زيد بن عمرو بن نفيل ، أن زيدا كان إذا استقبل الكعبة داخل المسجد ، قال ‏‏:‏‏ لبيك حقا حقا ، تعبدا ورقا ‏‏.‏‏

عذت بما عاذ به إبراهيمْ * مستقبل القبلة وهو قائم‏

إذ قال ‏‏:‏‏

أنفي لك اللهم عان راغمْ * مهما تجشمني فإني جاشم

البرَّ أبغي لا الخال * ليس مُهجِّر كمن قال ‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ ويقال ‏‏:‏‏ البر أبقى لا الخال ، ليس مهجر كمن قال ‏‏.‏‏

قال ‏‏:‏‏ وقوله ‏‏(‏‏ مستقبل الكعبة ‏‏)‏‏ عن بعض أهل العلم ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وقال زيد بن عمرو بن نفيل ‏‏:‏‏

وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له الأرض تحمل صخرا ثقالا

دحاها فلما رآها استوت * على الماء أرسى عليها الجبالا

وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له المزن تحمل عذبا زلالا

إذا هي سيقت إلى بلدة * أطاعت فصبت عليها سجالا

 الخطاب يؤذي زيدا ويحاصره

وكان الخطاب قد آذى زيدا ، حتى أخرجه إلى أعلى مكة ، فنزل حراء مقابل مكة ، ووكل به الخطاب شبابا من شباب قريش وسفهاء من سفهائها ، فقال لهم ‏‏:‏‏ لا تتركوه يدخل مكة ؛ فكان لا يدخلها إلا سرا منهم ، فإذا علموا بذلك آذنوا به الخطاب فأخرجوه وآذوه كراهية أن يفسد عليهم دينهم ، وأن يتابعه أحد منهم على فراقه ‏‏.‏‏

فقال وهو يعظم حرمته على من استحل منه ما استحل من قومه ‏‏:‏‏

لاهُمَّ إني محرم لا حِلَّهْ * وإن بيتي أوسط المحلَّهْ

عند الصفا ليس بذي مَضلَّهْ *

 زيد يرحل إلى الشام وموته

ثم خرج يطلب دين إبراهيم عليه السلام ، ويسأل الرهبان والأحبار ، حتى بلغ الموصل والجزيرة كلها ، ثم أقبل فجال الشام كله ، حتى انتهى إلى راهب بميفعة من أرض البلقاء كان ينتهي إليه علم أهل النصرانية فيما يزعمون ، فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم ؛ فقال ‏‏:‏‏ إنك لتطلب دينا ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم ، ولكن قد أظل زمان نبي يخرج من بلادك التي خرجت منها ، يُبعث بدين إبراهيم الحنيفية ، فالحق بها ، فإنه مبعوث الآن ، هذا زمانه ‏‏.‏‏

وقد كان شامَّ اليهودية والنصرانية ، فلم يرض شيئا منهما ، فخرج سريعا ، حين قال له ذلك الراهب ما قال ، يريد مكة ، حتى إذا توسط بلاد لخم عدوا عليه فقتلوه ‏‏.‏‏

 ورقة يرثي زيدا

فقال ورقة بن نوفل بن أسد يبكيه ‏‏:‏‏

رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما * تجنبت تنورا من النار حاميا ‏

بدينك ربا ليس رب كمثله * وتركك أوثان الطواغي كما هيا

وإدراكك الدين الذي قد طلبته * ولم تك عن توحيد ربك ساهيا

فأصبحت في دار كريم مقامها * تُعلَّل فيها بالكرامة لاهيا

تلاقي خليل الله فيها ولم تكن * من الناس جبارا إلى النار هاويا

وقد تدرك الإنسان رحمة ربه * ولو كان تحت الأرض سبعين واديا

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ يروى لأمية بن أبي الصلت البيتان الأولان منها ، وآخرها بيتا في قصيدة له ، وقوله ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ أوثان الطواغي ‏‏)‏‏ عن غير ابن إسحاق ‏‏.‏‏